الاحكام المُسبقة تطغى على اغلب مفاهيمنا تجاه الاخر، معتقدين ان سلوكنا هو الاساس لقياس السلوك الطبيعي.
غالباً مايعتقد البعض ان الحيوانات والحشرات وحدها تأكل ابنائها وان اكل ابناء الجنس لبعضه امر غير فطري عند الانسان.
من الاحكام المسبقة ايضا الاعتقاد ان من الفطرة الدفن تحت التراب، بالرغم ان بعض الشعوب الاخرى تفضل ان تترك موتاها لتأكلها الطيور العليا على ان تأكلها الديدان الدنيا. فالدفن ليس من الفطرة وانما سلوك مكتسب.
لذلك ليس غريباً أن نرى ان الإتهام بأكل لحم البشر يعتبر اليوم مسبة توجه ضد الاعداء، مع ان آكلي لحم البشر كانوا منذ فجر التاريخ والى اليوم القريب جزء من سلوك الانسانية. فهل قام الانسان بذلك كل الوقت لاسباب مقيتة كما يترآى للبعض؟
هل كل المجتمعات تعتقد ان آكل لحم الاخ امر سئ او مكروه؟
Beth Conklin العالمة في الانثربيلوجيا من جامعة ناشفيله في ولاية تينيسه الامريكية، عاشت عند قبيلة من الهنود الحمر البرازيلية تدعى wari تعيش في غرب البرازيل وقد نشرت تجربتها في كتاب بإسم Consuming Grief.
القبيلة الهندية "واري" إستمرت تأكل لحم ابناءها المتوفين حتى الستينات من القرن الماضي. يقول احد اعضاء القبيلة متألما اثناء عملية دفنه احد الابناء" في ذلك الوقت حيث كانت القبيلة تأكل الجسد، لم يكن المرء يحتاج ان يفكر ان ابنه مستلقي في حفرة باردة في اعماق الارض، نحن لم نكن حزناء على فقدان الابناء في السابق كما هو الامر الان". ماهي الاسباب التي ادت الى نشوء هذه العادة عند شعب الواري؟ النتائج التي توصلت اليها الباحثة الامريكية آثارت الدهشة.
الاغلبية لديها احكام مسبقة عن الشعوب التي تمارس اكل لحم البشر، فتعتبرهم متوحشين ، بربر، ومتخلفين، ولكن العالمة لاتتفق مع هذه التوصيفات الغير عادلة. إنها تصف " شعائر الدفن" القديمة لابناء قبيلة واري على انها "آكلة لحوم الاقرباء بفضل الحب".
السبب الذي يقف خلف هذه الوجبة الخاصة كان بالتحديد من اجل التعبير عن الاحترام ولوداع المفقود العزيز والتخفيف عن اهله.
الحقائق التي يكشف عنها بحث العالمة بيث يطرح العديد من التساؤلات الاخلاقية: هل حقاً ان الهومو سابينس (الانسان الحالي) قادر على اكل ابناء جنسه بدافع فطري طبيعي؟ ام ان اكل لحم الاقرباء ،كما في هذه الحضارة، يمكن ان يكون عادة وتقليد ناتج عن الاحترام والحب المترسخ في الابناء تجاه الاباء؟
الحقيقة من الصعب الوصول اليها بفضل تراكم الاحكام المسبقة والنكات الكلاسيكية في اساطير الشعوب. في القرن التاسع عشر كان من الشائع تصوير الاعداء والشعوب الغريبة في المناطق النائية بتصويرات تهدف الى الحط من قيمتهم، مثل الادعاء بأنهم اكلة لحم بشر ومتعطشين لشرب الدم، من اجل جعلهم كالحيوانات ورفع قدر الذات بالمقارنة بهم. القصة عن الرجل الابيض في الوعاء الكبير على النار، شائع في نكات الغربيين. من المثير الاشارة الى وجود العديد من الامثلة التي تشير الى ان الغربيين نفسهم كانوا يتعرضون ايضا الى الاتهام بأنهم من آكلة لحوم البشر. مثلا، في اثناء الحرب العالمية الاولى اتهمت الدعاية الانكليزية اعداءها الالمان بأن جيشهم يتغذى على لحم البشر المشوي في ساحات القتال.
العظام تكشف الحقيقة
بوجود القليل من الحقائق والكثير من الاشاعات يفضل الكثيرين ان ينفوا وجود آكلة لحوم البشر كجزء من التاريخ الانساني، ليدعوا ن بعض الاحداث لم تكن إلا استثناء. وهذا بالضبط مافعله الكثير من الاثنوبيلوجيين غير ان اللقى الكثيرة من العظام التي وجدت في انحاء كثيرة من العالم ،اسقطت مقاومتهم.
الجروح والكسور الموجودة على العظام التي عثر عليها، يمكن ان تحدث فقط عند معالجة اللحم بنوع من الادوات. لقد ازيل اللحم عن العظم. قسم من العظام يشير الى انهم تعرضوا لنار حامية اما عن طريق الغلي او عن طريق الشوي. لربما لاتكفي هذه المؤشرات على الادعاء بوجود آكلة لحم البشر ولكن عندما تتواجد هذه العظام الى جانب تلة من عظام الحيوانات التي تملك الاشارات نفسها لايمكن إلا الاستنتاج ان عظام البشر عوملت بالطريقة نفسها التي عوملت بها عظام الحيوانات وللغاية نفسها.
المزيد من اللقى تشير الى ان آكلة لحوم البشر كانوا موجودين في العصور القديمة والحديثة على السواء. عام 1994 عثر العلماء على 80000 عظمة قديمة في مغارة شمال اسبانيا تدعى Gran Dolina. عليهم تظهر آثار واضحة ان لحمهم أزيل بأدوات حادة، وانه ستة اشخاص على الاقل تم ذبحهم وسلخهم وتقطيعهم.
مؤخراً وجد العلماء الفرنسيين عظاماً لبشر من عصر انسان النيندرتال تم قتلهم قبل 100 الف سنةفي المغارة قرب فالينس، وتسمى مغارة Moula-Guercy. الجمجة محطمة والدماغ تم اخراجه واللسان قطع قطعاً بوضوح. الفاعلين قاموا بتحطيم عظام السيقان بكل عناية من اجل الوصول الى النخاع العظمي بداخلهم.
عام 1999 نشر المصمم البيلوجي Christy Turner من جامعة اريزونا كتابه من 500 صفحة، عرض فيه مجموعة كبيرة من الاثباتات الموثقة تشير الى ان هنود حضارة الاناسازي (anasazi) في جنوب غرب الولايات المتحدة والمكسيك كانوا من آكلة لحم البشر. هذه الحضارة ازدهرت قبل 1000 سنة ولكنها اختفت قبل 300 عام.
Christy Turner درس خلال 30 سنة آلاف العظام التي خلفتها حضارة الاناسازي، مستخدما ادق الاجهزة الاليكترونية. الادلة تشير الى ان اكل لحم البشر كان جزء من هذه الحضارة خلال 400 سنة من عمرها. لماذا ظهرت هذه الحاجة في مرحلة معينة فقط؟ لربما من اجل نشر الخوف بين المنافسين من الجيران.
بعض العلماء يشكك بكون آثار إزالة اللحم عن العظم كافية لاعتبار الشعب المعني من آكلة لحم البشر، انها تكفي لإثبات ان الشعب المشار اليه كان يزيل اللحم عن العظم، ولكن ليس انه كان يأكل اللحم المُزال. والتوضيح البديل لهولاء العلماء ان الإشارات الظاهرة على العظم يمكن ان تكون بسبب تقطيعهم للاعضاء على سبيل الذكرى. او لربما علائم عن فعاليات شعائر الدفن.
قبل بضعة سنين اكتشف العلماء في بعض مغارات كالورادو إكتشافا القى المزيد من الضوء على الاحداث المختلف فيها. في المغارة جرى قتل سبعة اشخاص قبل 850 سنة. بمساعدة التحليل البيوكيميائي المستخدم اليوم في التحقيقات الجائية، تمكن العلماء من ملاحقة " اللحمة" من العظمة الى الجدر الى معدة آكليها. آثار السكين على العظم كان واضحا للغاية. بعد ذلك جرى غليهم على النار في جدر تم العثور على بقاياه. التحاليل عثرت في الجدر على بقايا myoglobin وهو بروتين بشري يوجد في نسيج عضلاتنا. هذا بحد ذاته إثبات قوي على حدوث أكل لحم البشر عند هذه الحضارة،ولكن الحظ كان الى جانب العلماء بالمزيد من الاثباتات. احد آكلي لحوم البشر قام بالتغوط في المغارة، بعد الطعام وفي غائطه وجد العلماء ايضا آثارا للبروتين البشري. ومن حيث ان هذا البروتين لايوجد في أمعاء الانسان، لايمكن ان يكون قد وصل الى الغائط إلا عن طريق اكل لحم بشري. السبب الذي دعى هذا الشعب الى اكل لحوم البشر غير معروف، ولكن تاريخ هذه الممارسة تتطابق مع فترة جفاف تعرضت لها المنطقة، وبالتالي من الممكن ان يكون السبب تعرضهم للمجاعة.
ومهما كانت اسباب ظهور ظاهرة اكل لحوم البشر، تشير الدراسات الى ان الظاهرة كانت منتشرة بين اوساط الكثير من الشعوب والجماعات البشرية القديمة. في العصور الاحدث كانت سعة انتشار هذه الظاهرة مرتبطة بالخيال والاساطير اكثر من انتشار في الواقع.
Papua Nya Guinea احدى الاماكن التي كانت تحدث فيه شعائر اكل لحم البشر في القرن التاسع عشر عام 1957 اكتشف الاطباء انتشار مرض مجهول بشكل وبائي بين مجموعة من القرى. اظهرت الفحوصات اصابة السكان بمرض جنون البقر بسبب عادة اكل ادمغة الموتى من الاقارب. بعد منع إقامة هذه الشعيرة عام 1960 اصبح المرض نادراً.
مظاهر أكل لحم البشر في غوينيا الجديدة تذكرنا بمثيلها عند شعب واري البرازيلي، الذي بدأ الموضوع منهم. Beth Conklin جمعت الكثير من ذكريات شيوخ القبيلة عن فترة شعيرة اكل لحم البشر التي عاصروها شخصياً. شعب واري كان لديهم نوعين من انواع اكل لحوم البشر، النوع الكلاسيكي والذي يتشابه الى حد ما بما نعرفه عن اكل اللحم البشري لإخافة الاعداء إذ كانوا يأكلون اجساد اعدائهم الذين يسقطون في المعارك والنزاعات. القتلى يجري تقطيعهم وشويهم تماما مثل اي طريدة يجري صيدها. خلال الاكل يصدر عنهم اصوات تشير الى احتقارهم وعدم احترامهم لعدوهم الذي يأكلوه.
الدفن عن طريق اكل الجسد
عندما يكون الميت من الاقرباء تختلف التصرفات المتبعة لتصبح تعبر عن الاحترام والتقدير. جميع الاقرباء يجري دعوتهم الى الحفلة الهائلة " لدفن" جسد الميت التي تستمر ثلاثة ايام. وفي حين تقوم النساء بخبز الخبز من طحين الذرة يجمع الرجال الحطب الذي يجري تزويقه وتزينه بالاشرطة الملونة وريش الطيور.
عندم تصبح جميع الاستعدادات جاهزة يقطع الجسم الى قطع صغيرة، الذي جرى تزيينه باللون الاحمر، بإحترام كبير وحرص شديد على انغام الاغاني والتمتمات الحزينة الصادرة عن جميع اعضاء القبيلة. قطع اللحم تغسل وتنظف وتوضع على مشوى من الخشب لينضجوا على نار هادئة. بعد ذلك يبدأ الجميع بالاكل بهدوء وحسب التقاليد المتبعة منذ الغروب وحتى الشروق. في النهاية تحطم العظام الى قطع صغيرة وتدفن في مكان نوم العائلة.
الاقرباء من جهة الميت لايشاركون في أكل جسم الميت، بل تكون هذه مهمة الاقرباء من جهة الزوج الحي والابعدين . شعب واري كان يعتبر انه بهذه الطريقة يجعل الغياب اقل ألماً لأهل الميت طالما ان الجسد قد اختفى اختفاء تاماً ، ولهذا السبب بالذات تحرق ايضا كل مايمكن ان يذكر عنه مثل اغراضه وملابسه وحتى املاكه في السوق ويتجنب المرء ذكره على الاطلاق.
مختلف النظريات التقليدية التي تحاول شرح اسباب نشوء عادة أكل لحم البشر يظهر انها لاتنطبق على هذا الشعب. Beth Conklin مقتنعة بأن الهدف من هذه العادة عند شعب wari هو ليس من اجل إنقاذ الاقربون من مشاعر الحزن والافتقاد او للحصول على منفعة، وتصر على ان هذه الطريقة بالتوضيح مرتبطة بالعقلية الاوروبية التي لاتجد اسبابا اخرى غير الاسباب المادية المنفعية التجارية، تليق ان تكون توضيحاً واضعة المشاعر والاحترام موضعا مهيناً. إنها تصر على ان الهنود لم يفعلوا ذلك من اجل المنفعة الشخصية وانما من الاحترام للميت وللتعبير عن مشاعرهم.
في الستينات من القرن الماضي وصل المبشرين المسيحيين وموطفين الخدمات الاجتماعية الى منطقة الهنود وكانوا غاضبين على عادات واسلوب الهنود في دفن موتاهم، مما دعاهم لمنعه من خلال نشر الاكاذيب بأن اكل الموتى يؤدي الى نشر الانفلونزا والملاريا وامراض اخرى.
اليوم يدفن شعب الواري موتاهم بالطريقة نفسها التي قررنا نحن انها "الطبيعية" بالرغم من ان طريقتنا الطبيعية تثير القرف عند كبار السن من شعب الواري تماما كما هو اكل لحم البشر بالنسبة لنا.
المزيد من المصادر:
بيث كونكلين تعطي آكلة لحم البشر وجها انسانيا
آكلة لحوم البشر
Did cannibalism kill Anasazi civilization
آكل الاجنة الميتة في الصين اليوم
آكل لحم البشر في الصين القديمة . ¨
غالباً مايعتقد البعض ان الحيوانات والحشرات وحدها تأكل ابنائها وان اكل ابناء الجنس لبعضه امر غير فطري عند الانسان.
من الاحكام المسبقة ايضا الاعتقاد ان من الفطرة الدفن تحت التراب، بالرغم ان بعض الشعوب الاخرى تفضل ان تترك موتاها لتأكلها الطيور العليا على ان تأكلها الديدان الدنيا. فالدفن ليس من الفطرة وانما سلوك مكتسب.
لذلك ليس غريباً أن نرى ان الإتهام بأكل لحم البشر يعتبر اليوم مسبة توجه ضد الاعداء، مع ان آكلي لحم البشر كانوا منذ فجر التاريخ والى اليوم القريب جزء من سلوك الانسانية. فهل قام الانسان بذلك كل الوقت لاسباب مقيتة كما يترآى للبعض؟
هل كل المجتمعات تعتقد ان آكل لحم الاخ امر سئ او مكروه؟
Beth Conklin العالمة في الانثربيلوجيا من جامعة ناشفيله في ولاية تينيسه الامريكية، عاشت عند قبيلة من الهنود الحمر البرازيلية تدعى wari تعيش في غرب البرازيل وقد نشرت تجربتها في كتاب بإسم Consuming Grief.
القبيلة الهندية "واري" إستمرت تأكل لحم ابناءها المتوفين حتى الستينات من القرن الماضي. يقول احد اعضاء القبيلة متألما اثناء عملية دفنه احد الابناء" في ذلك الوقت حيث كانت القبيلة تأكل الجسد، لم يكن المرء يحتاج ان يفكر ان ابنه مستلقي في حفرة باردة في اعماق الارض، نحن لم نكن حزناء على فقدان الابناء في السابق كما هو الامر الان". ماهي الاسباب التي ادت الى نشوء هذه العادة عند شعب الواري؟ النتائج التي توصلت اليها الباحثة الامريكية آثارت الدهشة.
الاغلبية لديها احكام مسبقة عن الشعوب التي تمارس اكل لحم البشر، فتعتبرهم متوحشين ، بربر، ومتخلفين، ولكن العالمة لاتتفق مع هذه التوصيفات الغير عادلة. إنها تصف " شعائر الدفن" القديمة لابناء قبيلة واري على انها "آكلة لحوم الاقرباء بفضل الحب".
السبب الذي يقف خلف هذه الوجبة الخاصة كان بالتحديد من اجل التعبير عن الاحترام ولوداع المفقود العزيز والتخفيف عن اهله.
الحقائق التي يكشف عنها بحث العالمة بيث يطرح العديد من التساؤلات الاخلاقية: هل حقاً ان الهومو سابينس (الانسان الحالي) قادر على اكل ابناء جنسه بدافع فطري طبيعي؟ ام ان اكل لحم الاقرباء ،كما في هذه الحضارة، يمكن ان يكون عادة وتقليد ناتج عن الاحترام والحب المترسخ في الابناء تجاه الاباء؟
الحقيقة من الصعب الوصول اليها بفضل تراكم الاحكام المسبقة والنكات الكلاسيكية في اساطير الشعوب. في القرن التاسع عشر كان من الشائع تصوير الاعداء والشعوب الغريبة في المناطق النائية بتصويرات تهدف الى الحط من قيمتهم، مثل الادعاء بأنهم اكلة لحم بشر ومتعطشين لشرب الدم، من اجل جعلهم كالحيوانات ورفع قدر الذات بالمقارنة بهم. القصة عن الرجل الابيض في الوعاء الكبير على النار، شائع في نكات الغربيين. من المثير الاشارة الى وجود العديد من الامثلة التي تشير الى ان الغربيين نفسهم كانوا يتعرضون ايضا الى الاتهام بأنهم من آكلة لحوم البشر. مثلا، في اثناء الحرب العالمية الاولى اتهمت الدعاية الانكليزية اعداءها الالمان بأن جيشهم يتغذى على لحم البشر المشوي في ساحات القتال.
العظام تكشف الحقيقة
بوجود القليل من الحقائق والكثير من الاشاعات يفضل الكثيرين ان ينفوا وجود آكلة لحوم البشر كجزء من التاريخ الانساني، ليدعوا ن بعض الاحداث لم تكن إلا استثناء. وهذا بالضبط مافعله الكثير من الاثنوبيلوجيين غير ان اللقى الكثيرة من العظام التي وجدت في انحاء كثيرة من العالم ،اسقطت مقاومتهم.
الجروح والكسور الموجودة على العظام التي عثر عليها، يمكن ان تحدث فقط عند معالجة اللحم بنوع من الادوات. لقد ازيل اللحم عن العظم. قسم من العظام يشير الى انهم تعرضوا لنار حامية اما عن طريق الغلي او عن طريق الشوي. لربما لاتكفي هذه المؤشرات على الادعاء بوجود آكلة لحم البشر ولكن عندما تتواجد هذه العظام الى جانب تلة من عظام الحيوانات التي تملك الاشارات نفسها لايمكن إلا الاستنتاج ان عظام البشر عوملت بالطريقة نفسها التي عوملت بها عظام الحيوانات وللغاية نفسها.
المزيد من اللقى تشير الى ان آكلة لحوم البشر كانوا موجودين في العصور القديمة والحديثة على السواء. عام 1994 عثر العلماء على 80000 عظمة قديمة في مغارة شمال اسبانيا تدعى Gran Dolina. عليهم تظهر آثار واضحة ان لحمهم أزيل بأدوات حادة، وانه ستة اشخاص على الاقل تم ذبحهم وسلخهم وتقطيعهم.
مؤخراً وجد العلماء الفرنسيين عظاماً لبشر من عصر انسان النيندرتال تم قتلهم قبل 100 الف سنةفي المغارة قرب فالينس، وتسمى مغارة Moula-Guercy. الجمجة محطمة والدماغ تم اخراجه واللسان قطع قطعاً بوضوح. الفاعلين قاموا بتحطيم عظام السيقان بكل عناية من اجل الوصول الى النخاع العظمي بداخلهم.
عام 1999 نشر المصمم البيلوجي Christy Turner من جامعة اريزونا كتابه من 500 صفحة، عرض فيه مجموعة كبيرة من الاثباتات الموثقة تشير الى ان هنود حضارة الاناسازي (anasazi) في جنوب غرب الولايات المتحدة والمكسيك كانوا من آكلة لحم البشر. هذه الحضارة ازدهرت قبل 1000 سنة ولكنها اختفت قبل 300 عام.
Christy Turner درس خلال 30 سنة آلاف العظام التي خلفتها حضارة الاناسازي، مستخدما ادق الاجهزة الاليكترونية. الادلة تشير الى ان اكل لحم البشر كان جزء من هذه الحضارة خلال 400 سنة من عمرها. لماذا ظهرت هذه الحاجة في مرحلة معينة فقط؟ لربما من اجل نشر الخوف بين المنافسين من الجيران.
بعض العلماء يشكك بكون آثار إزالة اللحم عن العظم كافية لاعتبار الشعب المعني من آكلة لحم البشر، انها تكفي لإثبات ان الشعب المشار اليه كان يزيل اللحم عن العظم، ولكن ليس انه كان يأكل اللحم المُزال. والتوضيح البديل لهولاء العلماء ان الإشارات الظاهرة على العظم يمكن ان تكون بسبب تقطيعهم للاعضاء على سبيل الذكرى. او لربما علائم عن فعاليات شعائر الدفن.
قبل بضعة سنين اكتشف العلماء في بعض مغارات كالورادو إكتشافا القى المزيد من الضوء على الاحداث المختلف فيها. في المغارة جرى قتل سبعة اشخاص قبل 850 سنة. بمساعدة التحليل البيوكيميائي المستخدم اليوم في التحقيقات الجائية، تمكن العلماء من ملاحقة " اللحمة" من العظمة الى الجدر الى معدة آكليها. آثار السكين على العظم كان واضحا للغاية. بعد ذلك جرى غليهم على النار في جدر تم العثور على بقاياه. التحاليل عثرت في الجدر على بقايا myoglobin وهو بروتين بشري يوجد في نسيج عضلاتنا. هذا بحد ذاته إثبات قوي على حدوث أكل لحم البشر عند هذه الحضارة،ولكن الحظ كان الى جانب العلماء بالمزيد من الاثباتات. احد آكلي لحوم البشر قام بالتغوط في المغارة، بعد الطعام وفي غائطه وجد العلماء ايضا آثارا للبروتين البشري. ومن حيث ان هذا البروتين لايوجد في أمعاء الانسان، لايمكن ان يكون قد وصل الى الغائط إلا عن طريق اكل لحم بشري. السبب الذي دعى هذا الشعب الى اكل لحوم البشر غير معروف، ولكن تاريخ هذه الممارسة تتطابق مع فترة جفاف تعرضت لها المنطقة، وبالتالي من الممكن ان يكون السبب تعرضهم للمجاعة.
ومهما كانت اسباب ظهور ظاهرة اكل لحوم البشر، تشير الدراسات الى ان الظاهرة كانت منتشرة بين اوساط الكثير من الشعوب والجماعات البشرية القديمة. في العصور الاحدث كانت سعة انتشار هذه الظاهرة مرتبطة بالخيال والاساطير اكثر من انتشار في الواقع.
Papua Nya Guinea احدى الاماكن التي كانت تحدث فيه شعائر اكل لحم البشر في القرن التاسع عشر عام 1957 اكتشف الاطباء انتشار مرض مجهول بشكل وبائي بين مجموعة من القرى. اظهرت الفحوصات اصابة السكان بمرض جنون البقر بسبب عادة اكل ادمغة الموتى من الاقارب. بعد منع إقامة هذه الشعيرة عام 1960 اصبح المرض نادراً.
مظاهر أكل لحم البشر في غوينيا الجديدة تذكرنا بمثيلها عند شعب واري البرازيلي، الذي بدأ الموضوع منهم. Beth Conklin جمعت الكثير من ذكريات شيوخ القبيلة عن فترة شعيرة اكل لحم البشر التي عاصروها شخصياً. شعب واري كان لديهم نوعين من انواع اكل لحوم البشر، النوع الكلاسيكي والذي يتشابه الى حد ما بما نعرفه عن اكل اللحم البشري لإخافة الاعداء إذ كانوا يأكلون اجساد اعدائهم الذين يسقطون في المعارك والنزاعات. القتلى يجري تقطيعهم وشويهم تماما مثل اي طريدة يجري صيدها. خلال الاكل يصدر عنهم اصوات تشير الى احتقارهم وعدم احترامهم لعدوهم الذي يأكلوه.
الدفن عن طريق اكل الجسد
عندما يكون الميت من الاقرباء تختلف التصرفات المتبعة لتصبح تعبر عن الاحترام والتقدير. جميع الاقرباء يجري دعوتهم الى الحفلة الهائلة " لدفن" جسد الميت التي تستمر ثلاثة ايام. وفي حين تقوم النساء بخبز الخبز من طحين الذرة يجمع الرجال الحطب الذي يجري تزويقه وتزينه بالاشرطة الملونة وريش الطيور.
عندم تصبح جميع الاستعدادات جاهزة يقطع الجسم الى قطع صغيرة، الذي جرى تزيينه باللون الاحمر، بإحترام كبير وحرص شديد على انغام الاغاني والتمتمات الحزينة الصادرة عن جميع اعضاء القبيلة. قطع اللحم تغسل وتنظف وتوضع على مشوى من الخشب لينضجوا على نار هادئة. بعد ذلك يبدأ الجميع بالاكل بهدوء وحسب التقاليد المتبعة منذ الغروب وحتى الشروق. في النهاية تحطم العظام الى قطع صغيرة وتدفن في مكان نوم العائلة.
الاقرباء من جهة الميت لايشاركون في أكل جسم الميت، بل تكون هذه مهمة الاقرباء من جهة الزوج الحي والابعدين . شعب واري كان يعتبر انه بهذه الطريقة يجعل الغياب اقل ألماً لأهل الميت طالما ان الجسد قد اختفى اختفاء تاماً ، ولهذا السبب بالذات تحرق ايضا كل مايمكن ان يذكر عنه مثل اغراضه وملابسه وحتى املاكه في السوق ويتجنب المرء ذكره على الاطلاق.
مختلف النظريات التقليدية التي تحاول شرح اسباب نشوء عادة أكل لحم البشر يظهر انها لاتنطبق على هذا الشعب. Beth Conklin مقتنعة بأن الهدف من هذه العادة عند شعب wari هو ليس من اجل إنقاذ الاقربون من مشاعر الحزن والافتقاد او للحصول على منفعة، وتصر على ان هذه الطريقة بالتوضيح مرتبطة بالعقلية الاوروبية التي لاتجد اسبابا اخرى غير الاسباب المادية المنفعية التجارية، تليق ان تكون توضيحاً واضعة المشاعر والاحترام موضعا مهيناً. إنها تصر على ان الهنود لم يفعلوا ذلك من اجل المنفعة الشخصية وانما من الاحترام للميت وللتعبير عن مشاعرهم.
في الستينات من القرن الماضي وصل المبشرين المسيحيين وموطفين الخدمات الاجتماعية الى منطقة الهنود وكانوا غاضبين على عادات واسلوب الهنود في دفن موتاهم، مما دعاهم لمنعه من خلال نشر الاكاذيب بأن اكل الموتى يؤدي الى نشر الانفلونزا والملاريا وامراض اخرى.
اليوم يدفن شعب الواري موتاهم بالطريقة نفسها التي قررنا نحن انها "الطبيعية" بالرغم من ان طريقتنا الطبيعية تثير القرف عند كبار السن من شعب الواري تماما كما هو اكل لحم البشر بالنسبة لنا.
المزيد من المصادر:
بيث كونكلين تعطي آكلة لحم البشر وجها انسانيا
آكلة لحوم البشر
Did cannibalism kill Anasazi civilization
آكل الاجنة الميتة في الصين اليوم
آكل لحم البشر في الصين القديمة . ¨